تتواصل النقاشات حول إعادة فرض رسوم ترامب الجمركية وتوسيع نطاقها، مع التركيز بشكل خاص على الصين، واحتمال امتداد هذه السياسات لتشمل شركاء تجاريين رئيسيين آخرين كالمكسيك والاتحاد الأوروبي. وتندرج هذه الإجراءات ضمن أجندة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المعروفة بشعار “أمريكا أولاً”، والتي تهدف إلى حماية الصناعات المحلية وتقليص العجز التجاري الأمريكي. غير أن تأثير هذه السياسات يتجاوز حدود الولايات المتحدة، إذ تمتلك القدرة على إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي، وتعطيل سلاسل التوريد، وإعادة رسم خارطة التحالفات الجيوسياسية.
وعلى الرغم من تقديم الرسوم الجمركية كأدوات اقتصادية داخلية، فإن تأثيراتها تمتد إلى كافة أرجاء الاقتصاد العالمي. فهي تؤثر على مواقع الإنتاج، وتُعيد ترتيب الدول المتحالفة اقتصادياً، وتُحدث تغيرات عميقة في العلاقات التجارية بين الدول. وفي هذا الإطار، تتجلّى ثلاثة ملامح رئيسية يمكن أن تُحدثها سياسات ترامب الجمركية في المشهد الدولي.
أولاً، فإن إحدى أبرز النتائج الفورية لعودة الرسوم الجمركية تتمثل في تعطيل سلاسل الإمداد العالمية، حيث تعتمد العديد من الشركات الكبرى على الإنتاج عبر الحدود، لا سيما في قطاعات الإلكترونيات والسيارات والسلع الاستهلاكية. وتؤدي الرسوم إلى رفع كلفة استيراد المواد والمكونات والمنتجات النهائية، ما يدفع الشركات إلى نقل عملياتها إلى مناطق لا تشملها الرسوم.
تصفح أيضاً: ترامب يُعلن عن وقف مؤقت للتعريفات المفروضة على معظم الدول ورفعها على الصين بنسبة 125%
فعلى سبيل المثال، قد تتجه الشركات الأمريكية إلى دول مثل فيتنام أو الهند أو المكسيك لتجنّب الأعباء الجمركية، ما يسبب تضخماً مؤقتاً واضطرابات تشغيلية، لكنه في الوقت ذاته يفتح آفاقاً جديدة للأسواق الناشئة. وبمرور الوقت، تؤدي هذه التحولات إلى تفكك شبكة الإنتاج العالمية، وتعزيز النزعة الإقليمية في التصنيع، وتقليص الاعتماد على دولة بعينها، وعلى رأسها الصين.
غير أن هذه التحولات لا تجري بسلاسة أو بسرعة، إذ يتطلب إعادة تنظيم سلاسل الإمداد وقتاً واستثمارات ضخمة وتحولات لوجستية شاقة. وخلال هذه المرحلة الانتقالية، يدفع كل من المستهلكين والشركات الثمن، سواء عبر ارتفاع الأسعار أو تأخر الإنتاج.
وفي سياق موازٍ، بدأت الرسوم الجمركية تترك بصمتها على سوق العملات الرقمية، حيث إن تصاعد التوترات التجارية وحالة عدم اليقين الاقتصادي العالمي تدفع بالمستثمرين إلى الأصول غير التقليدية، وعلى رأسها البيتكوين والعملات الرقمية الأخرى، باعتبارها ملاذاً آمناً في وجه تقلبات العملات التقليدية والمخاطر الجيوسياسية. ومع تزايد الاضطرابات في التجارة العالمية، وتنامي معدلات التضخم، واحتمالات تذبذب الدولار، من المتوقع أن تشهد أسواق العملات الرقمية اهتماماً مضاعفاً وتدفقاً متزايداً لرؤوس الأموال، الأمر الذي قد يؤدي إلى تقلبات حادة توفر فرصاً ومخاطر في آن واحد.
علاوة على ذلك، إذا ما أسهمت هذه السياسات في إضعاف الثقة بالمؤسسات المالية المركزية، فإنها ستعزز من السردية الداعية إلى فك الارتباط بالمركزية والتمسك بمفهوم الحيازة الذاتية للأصول، وهي المبادئ الجوهرية التي يقوم عليها النظام الرقمي المالي.
أما على صعيد المؤسسات الدولية والتعاون متعدد الأطراف، فقد شكلت استراتيجية ترامب، ولا سيما خلال ولايته الأولى، تحدياً مباشراً للأطر التجارية العالمية، مفضلاً إبرام الاتفاقات الثنائية والسياسات القومية على التعاون الجماعي. وإن عودة هذا النهج من شأنها أن تُقوّض مصداقية وفاعلية مؤسسات التجارة الدولية، ما قد يدفع دولاً أخرى إلى اتخاذ تدابير تجارية أحادية الجانب، الأمر الذي يعمّق التوترات في التجارة العالمية. فالنظام التجاري الدولي، الذي كان يرتكز سابقاً على التنسيق والتعاون، مهدد بالتحول إلى شبكة من الكتل المنعزلة التي تسعى إلى تحقيق مصالحها الخاصة، ما يُشكل تهديداً خطيراً لاستقرار التجارة الدولية وقواعدها.
وفي خضم هذه التحولات، لم يعد يُنظر إلى التجارة كأداة اقتصادية فحسب، بل كوسيلة دبلوماسية نافذة، حيث إن فرض الرسوم على صناعات استراتيجية مثل أشباه الموصلات والطاقة النظيفة ومكونات التكنولوجيا قد يعيد رسم التحالفات الدولية. ومع تعمق الفصل الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين، ستُضطر العديد من الدول إلى تحديد تموضعها بين المعسكرين الاقتصاديين الغربي والشرقي.
وقد يؤدي ذلك إلى ظهور منظومات تكنولوجية متنافسة، وتحولات في السيطرة على موارد الطاقة، وقيام تحالفات سياسية جديدة تتجاوز النفوذ الأمريكي. ويمكن للصين، في هذا السياق، أن تعزز تعاونها مع دول “بريكس”، أو تسرّع تنفيذ مبادرة “الحزام والطريق” لموازنة التأثير الأمريكي. ويقود هذا إلى اقتصاد عالمي أكثر انقساماً، يتسم بقدر أقل من التعاون، وقدر أعلى من التنافس والصراعات التجارية.
المصدر: كريبتو نيوز