شهدت أسعار الذهب مؤخرًا ارتفاعًا غير مسبوق بلغ 3,167.57 دولارًا للأونصة، في ظل أزمات سياسية واقتصادية عالمية تعيد إلى الأذهان ما حدث في عام 1980، حين كانت الظروف الجيوسياسية المحرك الرئيسي للطلب على المعدن النفيس. إلا أن خبراء السوق يؤكدون أن ما يميز هذه الموجة عن سابقاتها هو بنيتها المختلفة وإمكانية استمرارها على المدى الطويل.
تتفاقم التوترات بين القوى الكبرى نتيجة الرسوم الجمركية التي تفرضها الولايات المتحدة، والتعقيدات في التجارة العالمية، فضلًا عن حرب غزة، ما يجعل من الصعب تحقيق توافق دولي لمعالجة العوامل التي تدفع المستثمرين نحو الذهب باعتباره ملاذًا آمنًا في أوقات الخطر، بحسب محللين.
وفي هذا السياق، أوضح جيمس ستيل، المحلل في بنك HSBC، أن تجاوز الذهب حاجز 3,000 دولار للأونصة، مدفوعًا مؤخرًا بالجولة الجديدة من الرسوم التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الشركاء التجاريين، يُعد المرة الأولى منذ زمن طويل التي تكون فيها الجيوسياسة والضبابية الاقتصادية العاملين الرئيسيين في تحريك السوق.
وسجل الذهب الفوري الأسبوع الماضي أعلى مستوياته على الإطلاق عند 3,167.57 دولارًا للأونصة، مرتفعًا بنسبة 16% منذ بداية العام الحالي، بعد أن سجل نموًا بنسبة 27% خلال عام 2024. ورغم أن حركة السوق لا تسير دائمًا في مسار خطي، يرى المحللون أن دخول الذهب هذه المناطق غير المسبوقة يبدو أكثر صلابة مما حدث قبل خمسة وأربعين عامًا.
ويؤكد الخبراء أن العلاقة العكسية بين الذهب وتدفقات التجارة تجعل من موقف ترامب المتشدد بشأن الرسوم الجمركية – والذي بلغ ذروته في الإعلان الأخير عن أشد حواجز تجارية تشهدها واشنطن منذ أكثر من قرن – محفزًا رئيسيًا لدخول مستثمرين جدد إلى السوق بدافع الخوف من اندلاع حرب تجارية شاملة.
ورغم أن الدولار يُعد تقليديًا ملاذًا آمنًا، فإن تصاعد القلق حيال السياسات التجارية الراهنة بدأ يؤثر في مكانته، ويشير إلى تراجع تدريجي في الثقة به.
منذ تسلّمه السلطة قبل شهرين ونصف، أحدث ترامب تغييرات جذرية في النظام الدولي، حيث لوّح بإمكانية تخلي الولايات المتحدة عن التزاماتها الأمنية تجاه أوروبا للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، كما لمّح إلى احتمال ضم غرينلاند إلى الولايات المتحدة.
تصفح أيضاً: المدير التنفيذي لشركة CryptoQuant: من المتوقع أن يستمر سوق البيتكوين في حالة تراجع لمدة لا تقل عن ستة أشهر
وفي مقارنة تاريخية، يشير ستيل إلى أن الأزمات التي دفعت الذهب إلى الارتفاع قبل 45 عامًا – وعلى رأسها الثورة الإيرانية وأزمة النفط – تم احتواؤها نسبيًا بسرعة، ما أدى إلى تراجع أسعار الذهب لاحقًا. غير أن تعطل التعاون الدولي في السنوات الأخيرة ساهم في بقاء أسعار الذهب عند مستويات مرتفعة بشكل دائم، ما يدل، وفق تعبيره، على وجود “طلب جيوسياسي أوسع نطاقًا” داخل السوق.
وفي ضوء ذلك، تُعد التوترات التجارية الأخيرة واحدة من سلسلة طويلة من العوامل التي تغذي صعود الذهب المستمر. فقد عايش العالم خلال السنوات الأخيرة جائحة كورونا التي استمرت لعامين، تلاها اندلاع الحرب عام 2022، وأزمة القطاع العقاري في الصين، ثم حرب إسرائيل في غزة.
وتجدر الإشارة إلى أن السياسات النقدية التيسيرية والمخاوف من اتساع العجز المالي دفعت المستثمرين في الدول الغربية إلى زيادة حيازتهم من الذهب خلال العام الماضي.
وفي ظل عدم وجود تعاون دولي لمعالجة هذه الأزمات، تبدو فرص التوافق الشامل حول السياسات الجمركية ضئيلة، على خلاف الأزمات الأخيرة التي استدعت استجابات عالمية منسقة، بحسب جورج غريفيثس، رئيس قسم التداول في شركة AMT Futures، الذي أشار إلى غياب أي بوادر حقيقية لتوحيد السياسات في مواجهة التصعيد التجاري المتزايد.
ورغم اجتياز السوق لعدة مراحل مفصلية هذا العام، إلا أن هناك محطة كبرى لا تزال قيد الانتظار. فقد أفادت المحللة في شركة StoneX، رونا أكونيل، بأن الذهب بلغ ذروته في يناير من عام 1980 عند 850 دولارًا، ما يعادل 3,486 دولارًا بالقيمة الحقيقية اليوم.
ويرى ستيل من HSBC أن الأسواق، وإن كانت قد سجلت مستويات غير مسبوقة من حيث القيمة الاسمية، فإنها لم تبلغ بعد الذروة الحقيقية مقارنة بمعايير الثمانينيات. إلا أن هذا الوضع مرشح للتغير، إذ إن التوقعات الراهنة تشير إلى استمرار الارتفاع حتى عام 2026 بدلًا من بلوغ الذروة خلال العام الحالي.
وفي هذا الإطار، رفع مايكل ويدمر، محلل السلع في بنك أوف أمريكا، في السادس والعشرين من مارس توقعاته لأسعار الذهب إلى 3,063 دولارًا في عام 2025 و3,350 دولارًا في 2026، مقارنة بتوقعاته السابقة عند 2,750 و2,625 دولارًا على التوالي، وأعاد تأكيد هذه التقديرات يوم الأحد. وهو يرى حاليًا أن سعر الذهب الفوري قد يصل إلى 3,500 دولار خلال العامين المقبلين.
وأكد ويدمر أن التنبؤ بوصول الذهب إلى 3,000 دولار كان أسهل من توقع بلوغه 3,500 دولار، متسائلًا عن المخاطر البديلة في هذا السياق. وأضاف: “الخطر هو العودة إلى ما كنا عليه قبل عامين… إلى بيئة عالمية أكثر تعاونًا، دون مخاطر لحروب تجارية، وعودة الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى رفع أسعار الفائدة، واستقرار الاقتصاد والمزاج العام. في تلك الحالة، تنتهي موجة الذهب فعليًا.”
وختم بالقول: “لكنني أعتقد أن هذا السيناريو غير مرجّح.”