فرض الدولار الأمريكي هيمنته على النظام المالي العالمي منذ الحرب العالمية الثانية، ليصبح العملة المعتمدة في التجارة الدولية، وتسعير السلع الاستراتيجية مثل النفط والذهب، فضلًا عن كونه الركيزة الأساسية في احتياطيات البنوك المركزية. ومع اتفاقية بريتون وودز عام 1944، ترسّخت مكانة الدولار كعملة عالمية مرتبطة بالذهب، لتصبح مرجعية الدول في تعاملاتها ومعاملاتها الدولية.
لكن بعد مرور عقود من الهيمنة، بدأت ملامح تراجع هذه السيطرة تلوح في الأفق، حيث أعلنت إحدى عشرة دولة عن نيتها التوقف عن استخدام الدولار الأمريكي في معاملاتها اعتبارًا من عام 2025، ما يعزز التوقعات بقرب انتهاء هيمنة الدولار، ويفتح الباب أمام نظام مالي متعدد الأقطاب.
الدول التي تخلت عن الدولار الأمريكي
قررت 11 دولة من رابطة الدول المستقلة (CIS) — والتي تضم غالبية الجمهوريات السوفيتية السابقة — إنهاء اعتمادها على الدولار في معاملاتها الدولية. وتشمل هذه الدول: أرمينيا، أذربيجان، بيلاروسيا، كازاخستان، قيرغيزستان، مولدوفا، روسيا، طاجيكستان، تركمانستان، وأوزبكستان..
ويُعد هذا القرار تحولًا جيو-اقتصاديًا كبيرًا، يهدف إلى تقليص النفوذ الأمريكي، وتحقيق قدر أكبر من السيادة الاقتصادية، خاصة في ظل الأزمات المتلاحقة التي تعصف بالنظام المالي العالمي، وزيادة اعتماد الدول على الابتكار التكنولوجي، مثل العملات الرقمية الوطنية، والمنصات البديلة للتسوية المالية.
اطلع مصرف الإنماء يعلن عن إصدار صكوك مستدامة بالدولار لتعزيز رأس المال
أسباب هذا التحول المفاجئ
تعددت الأسباب التي دفعت تلك الدول إلى اتخاذ هذا القرار الجريء، ويمكن تلخيصها في المحاور التالية:
- تأثير العقوبات الأمريكية: تعرضت العديد من هذه الدول لعقوبات اقتصادية مباشرة أو غير مباشرة من واشنطن، الأمر الذي جعل الاعتماد على الدولار يمثل عبئًا سياسيًا واقتصاديًا يهدد استقرار اقتصاداتها.
- تذبذب السياسة النقدية الأمريكية: مع ارتفاع الديون الأمريكية، والتغيرات المستمرة في سعر الفائدة، أصبح الدولار أقل استقرارًا مما كان عليه سابقًا، وهو ما دفع دولًا عديدة لإعادة النظر في مدى جدوى ربط اقتصاداتها بعملة تعاني من أزمات داخلية.
- الرغبة في تعزيز العملات الوطنية: تُمكّن هذه الخطوة الدول من إعادة الاعتبار لعملاتها المحلية، والاعتماد عليها في التبادلات التجارية الإقليمية، مما يقلل من تكاليف التحويل ويحد من التبعية المالية لاقتصاد خارجي.
- التقدم التكنولوجي: ساعدت التطورات التقنية، خاصة في مجال العملات الرقمية وأنظمة الدفع البديلة، على توفير أدوات حقيقية تتيح للدول تنفيذ التجارة الدولية دون الحاجة إلى المرور عبر النظام المالي الأمريكي.
هل هذه بداية نهاية هيمنة الدولار؟
رغم أن القرار الصادر من الدول الـ11 لا يعني انهيارًا فوريًا لمكانة الدولار، فإنه يحمل دلالات قوية على تآكل النفوذ الاقتصادي الأمريكي، لا سيما مع وجود قوى كبرى مثل الصين وروسيا تدفع باتجاه تسوية المعاملات الدولية بعملات بديلة.
يرى الخبير “جويش تشانغ”، رئيس الأبحاث العالمية في بنك جي بي مورغان، أن الدولار قد يبقى عملة احتياط لفترة أطول، لكنه في مسار تنازلي، خاصة مع اتساع رقعة الدول التي تسعى إلى فك الارتباط به.
التداعيات المحتملة على الاقتصاد العالمي
سيُحدث التخلي التدريجي عن الدولار تحولًا في موازين القوى الاقتصادية. فكلما قلّ استخدام الدولار في التجارة الدولية، تراجع الطلب عليه، ما قد يضغط على قيمته في المدى البعيد. وفي المقابل، ستكسب العملات الأخرى مثل اليوان الصيني أو اليورو المزيد من الثقة، وستظهر أنظمة مالية بديلة قد تعيد تشكيل النظام العالمي.
أما بالنسبة للمواطنين في تلك الدول، فقد لا يظهر تأثير القرار بشكل مباشر في البداية، إلا أن التغييرات ستنعكس تدريجيًا على الأسعار، السياسات النقدية، واستقرار العملات المحلية، مع احتمالات لتحسين الاستقلال الاقتصادي الداخلي وتقليل التعرض للصدمات الخارجية.
للمزيد من الأخبار، انضموا إلى قناتنا على التلجرام وابقوا على اطلاع دائم بآخر الأخبار والتحديثات الاقتصادية لحظة بلحظة.